الترميز الشخصي- وباء يعيق الفكر ويهدم الوعي
المؤلف: هيلة المشوح09.15.2025

عندما يتم ترفيع الفرد فوق مستوى الفكرة، وتتجذر أشكال الولاء الأعمى والتبعية المطلقة لأسماء وشخصيات محددة، فإننا نواجه واحدة من أخطر أزمات الوعي؛ ألا وهي تقديس الأشخاص وحشد الجموع حولهم، وتحريك الغوغاء. هذه الظاهرة، التي كانت فيما مضى حكراً على حقبة "الصحوة" الدينية التي اجتاحت مجتمعاتنا العربية في أواخر القرن العشرين، قد تحولت إلى نموذج صارخ يكشف عن انهيار البنية العقلية للمجتمع. ففي هذا السياق، تتحول الفكرة إلى مجرد شخص، والرمز إلى وصي على العقول، وتُطمس أي فكرة أخرى عندما يتشكل جيل كامل حول هؤلاء "الرموز"، جيل لم يمنح نفسه فرصة للتفكير خارج الإطار الضيق الذي يقدمه "الواعظ". ويتم الربط بين كل نقد يوجه إليه أو إليهم بـ"عداء للدين" أو "خروج عن الثوابت"، بالإضافة إلى اتهامات بالفسق والزندقة وغيرها. وبالتالي، يتحول النقد إلى جريمة فكرية، ويُنظر إلى الرأي الآخر بارتياب وتشكيك في جوهر الدين وثوابته!
الشخصنة في الفكر هي داء عضال اكتوينا بنيرانه. والتعبئة الممنهجة ضد المخالف في الرأي تمثل معضلة حقيقية تؤجج نار الكراهية وتفرز مخرجات بغيضة تصيب العقول بالشلل النقدي. فتحويل الفكرة إلى مجرد وجه، والموقف إلى نبرة صوت، والنص إلى فتوى، والرأي إلى مجرد مشادة كلامية، هو أمر بالغ الخطورة. ومع مرور الوقت، تنشأ طبقات من الأتباع الذين لا يتبعون الفكر ذاته، بل يتبعون الأشخاص بشكل أعمى. في هذه الحالة، يختلط الولاء العقائدي بالولاء الشخصي، وتفقد المبادئ مرونتها وواقعيتها، ويتحول الحوار إلى معارك فكرية تتشعب إلى صراعات أخرى ذات طبيعة عنصرية أو طائفية وغيرها.
نشهد جميعاً حراكاً غوغائياً محمومًا على منصات التواصل الاجتماعي، وخاصة في فضاءات (x)، حيث تسود المهاترات والسجالات الهزيلة التي تعتمد بشكل أساسي على الشخصنة والتحريض وإسقاط المخالف وتشويهه. قد لا يكون هذا الأمر جديداً، ولكن التطور اللافت الذي لاحظته - وربما لاحظه غيري - هو تقديس بعض الأسماء ليس بالضرورة على أساس ديني أو سياسي أو ما شابه... بل تقديس مجرد من أية معايير فكرية، ولا يهدف إلا إلى إلحاق الأذى وتبادل الشتائم والاتهامات. في هذا السياق، يرتفع نجم فلان (الكفو) الذي أسقط فلاناً أو فلانة، ونشر تفاصيلهم الشخصية أو فضحهم بمعلومات صحيحة أو كاذبة. أما فيما يتعلق بقواميس اللغة المستخدمة في هذه المهاترات، فحدث ولا حرج؛ إذ يفوز في هذا السباق المحموم صاحب أقذع المفردات وأدنى الألفاظ، ليعتلي المنصة ويحشد الغوغاء، ويصبح أبو فلان أو أم فلان "الكفو" الذي ألجم فلاناً وفلانة وألقمهما حجراً... ألا يذكركم هذا بمرحلة ما...؟!
هنا، يتعين علينا قراءة التاريخ بوعي وإدراك عميقين، ومن ثم تجاوز ظاهرة تقديس الأشخاص. فالمجتمعات الحرة لا تُبنى على الأتباع والمريدين، بل على المواطنين المخلصين الذين يتمتعون بحس المسؤولية، وعلى تجارب وإرث المفكرين. وعندما ندرك أن الصحوة - على سبيل المثال - لم تكن مجرد حركة دينية وعظية، بل كانت مشروعاً سياسياً مقنّعاً بغطاء ديني، سعى دعاتها المرموقون إلى إعادة تشكيل هوية المجتمع وتوجيه ولائه نحو أهدافهم التي تبدو في ظاهرها فكرية، ولكنها في جوهرها سياسية ذات توجهات إخوانية معاصرة، عندها سندرك أن الجماهير الصحوية كانت تسير خلف "الرمز" وهي مستعدة للدفاع عن رأيه حتى لو خالف النص، وتبرر أخطاءه حتى لو خالفت الأخلاق. عندها فقط سوف تستقر في العقول ثقافة نبذ التبعية واستنتاج عواقبها اللاأخلاقية، والاعتماد على المنطق ومخرجات الواقع الحقيقي دون أي تغييب للوعي ودون أي تغليب للعاطفة على العقل. وحتى لو سلمنا بأن الوضع الراهن يتسم بالفوضوية وعدم وجود أجندات واضحة، فإن المجتمعات المتوازنة هي تلك التي تعلي من قيمة المؤسسات لا الأفراد، والأفكار لا الوجوه، والحوار لا التلقين، والتي تحتفي بالمبادئ لا بالأصوات، وبالعقل لا بالهالة. وهي المجتمعات التي تدرك جيداً أن القدوة ليست معصومة، وأن الفكر لا يُختزل في شيخ أو مفكر أو غوغائي يعتلي منصة. فالرموز زائلة مهما علت، والوعي وحده هو الباقي.
نعم، إن تقديس الأشخاص ليست ظاهرة مستحدثة، لكنها تفاقمت في عصرنا الحالي بسبب تأثير الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث يتم تصنيع "الرموز" بسرعة فائقة، ولكنها تنهار أيضاً بالسرعة نفسها. والعبرة الأهم التي يجب استخلاصها هي أن الأفكار يجب أن تُقاس بقيمتها الجوهرية، لا بمن يتبناها أو يروج لها. وأن النقد الموضوعي ليس عدواناً، بل هو ضرورة حتمية لاستمرار أي نهضة حقيقية. وأن الصوت العالي والحجة البراقة والكاريزما الجذابة ليست بالضرورة مظهراً للقوة، بل قد تكون مجرد غطاء لعقل خالٍ من الأخلاق أو لشخصية منبوذة اجتماعياً.
الشخصنة في الفكر هي داء عضال اكتوينا بنيرانه. والتعبئة الممنهجة ضد المخالف في الرأي تمثل معضلة حقيقية تؤجج نار الكراهية وتفرز مخرجات بغيضة تصيب العقول بالشلل النقدي. فتحويل الفكرة إلى مجرد وجه، والموقف إلى نبرة صوت، والنص إلى فتوى، والرأي إلى مجرد مشادة كلامية، هو أمر بالغ الخطورة. ومع مرور الوقت، تنشأ طبقات من الأتباع الذين لا يتبعون الفكر ذاته، بل يتبعون الأشخاص بشكل أعمى. في هذه الحالة، يختلط الولاء العقائدي بالولاء الشخصي، وتفقد المبادئ مرونتها وواقعيتها، ويتحول الحوار إلى معارك فكرية تتشعب إلى صراعات أخرى ذات طبيعة عنصرية أو طائفية وغيرها.
نشهد جميعاً حراكاً غوغائياً محمومًا على منصات التواصل الاجتماعي، وخاصة في فضاءات (x)، حيث تسود المهاترات والسجالات الهزيلة التي تعتمد بشكل أساسي على الشخصنة والتحريض وإسقاط المخالف وتشويهه. قد لا يكون هذا الأمر جديداً، ولكن التطور اللافت الذي لاحظته - وربما لاحظه غيري - هو تقديس بعض الأسماء ليس بالضرورة على أساس ديني أو سياسي أو ما شابه... بل تقديس مجرد من أية معايير فكرية، ولا يهدف إلا إلى إلحاق الأذى وتبادل الشتائم والاتهامات. في هذا السياق، يرتفع نجم فلان (الكفو) الذي أسقط فلاناً أو فلانة، ونشر تفاصيلهم الشخصية أو فضحهم بمعلومات صحيحة أو كاذبة. أما فيما يتعلق بقواميس اللغة المستخدمة في هذه المهاترات، فحدث ولا حرج؛ إذ يفوز في هذا السباق المحموم صاحب أقذع المفردات وأدنى الألفاظ، ليعتلي المنصة ويحشد الغوغاء، ويصبح أبو فلان أو أم فلان "الكفو" الذي ألجم فلاناً وفلانة وألقمهما حجراً... ألا يذكركم هذا بمرحلة ما...؟!
هنا، يتعين علينا قراءة التاريخ بوعي وإدراك عميقين، ومن ثم تجاوز ظاهرة تقديس الأشخاص. فالمجتمعات الحرة لا تُبنى على الأتباع والمريدين، بل على المواطنين المخلصين الذين يتمتعون بحس المسؤولية، وعلى تجارب وإرث المفكرين. وعندما ندرك أن الصحوة - على سبيل المثال - لم تكن مجرد حركة دينية وعظية، بل كانت مشروعاً سياسياً مقنّعاً بغطاء ديني، سعى دعاتها المرموقون إلى إعادة تشكيل هوية المجتمع وتوجيه ولائه نحو أهدافهم التي تبدو في ظاهرها فكرية، ولكنها في جوهرها سياسية ذات توجهات إخوانية معاصرة، عندها سندرك أن الجماهير الصحوية كانت تسير خلف "الرمز" وهي مستعدة للدفاع عن رأيه حتى لو خالف النص، وتبرر أخطاءه حتى لو خالفت الأخلاق. عندها فقط سوف تستقر في العقول ثقافة نبذ التبعية واستنتاج عواقبها اللاأخلاقية، والاعتماد على المنطق ومخرجات الواقع الحقيقي دون أي تغييب للوعي ودون أي تغليب للعاطفة على العقل. وحتى لو سلمنا بأن الوضع الراهن يتسم بالفوضوية وعدم وجود أجندات واضحة، فإن المجتمعات المتوازنة هي تلك التي تعلي من قيمة المؤسسات لا الأفراد، والأفكار لا الوجوه، والحوار لا التلقين، والتي تحتفي بالمبادئ لا بالأصوات، وبالعقل لا بالهالة. وهي المجتمعات التي تدرك جيداً أن القدوة ليست معصومة، وأن الفكر لا يُختزل في شيخ أو مفكر أو غوغائي يعتلي منصة. فالرموز زائلة مهما علت، والوعي وحده هو الباقي.
نعم، إن تقديس الأشخاص ليست ظاهرة مستحدثة، لكنها تفاقمت في عصرنا الحالي بسبب تأثير الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث يتم تصنيع "الرموز" بسرعة فائقة، ولكنها تنهار أيضاً بالسرعة نفسها. والعبرة الأهم التي يجب استخلاصها هي أن الأفكار يجب أن تُقاس بقيمتها الجوهرية، لا بمن يتبناها أو يروج لها. وأن النقد الموضوعي ليس عدواناً، بل هو ضرورة حتمية لاستمرار أي نهضة حقيقية. وأن الصوت العالي والحجة البراقة والكاريزما الجذابة ليست بالضرورة مظهراً للقوة، بل قد تكون مجرد غطاء لعقل خالٍ من الأخلاق أو لشخصية منبوذة اجتماعياً.